من ناحية أخرى من ناحية
السعادة
هي جنة الأحلام التي ينشدها كل بشر، من الفيلسوف في قمة تفكيره وتجريده،
إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته. ومن الملك في قصره المشيد، إلى الصعلوك
في كوخه الصغير. ولا نحسب أحداً يبحث عن الشقاء لنفسه، أو يرضى بتعاستها.
ولكن السؤال الذي حير الناس من قديم هو: أين السعادة؟
لقد طلبها الأكثرون في غير موضعها، فعادوا كما يعود طالب اللؤلؤ في الصحراء، صفر اليدين، مجهود البدن، كسير النفس، خائب الرجاء!
أجل..
جرب الناس في شتى العصور ألوان المتع المادية، وصنوف الشهوات الحسية، فما
وجدوها -وحدها- تحقق السعادة أبداً، وربما زادتهم -مع كل جديد منها- همًّا
جديداً.
هل السعادة في النعيم المادي؟
لقد
ظن ذلك قوم، فحسبوا السعادة في الغنى، وفي رخاء العيش، ووفرة النعيم،
ورفاهية الحياة، لكن البلاد التي ارتفع فيها مستوى المعيشة، وتيسرت فيها
لأبنائها مطالب الحياة المادية، من مأكل ومشرب، وملبس ومسكن ومركب، مع
كماليات كثيرة، لا تزال تشكو من تعاسة الحياة، وتحس بالضيق والانقباض،
وتبحث عن طريق آخر للسعادة.
نشر
رئيس تحرير إحدى المجلات غير الدينية تحقيقاً صحفيًّا في مقالين منذ سنوات
جعل عنوانه: «أهل الجنة ليسوا سعداء»، وأهل الجنة الذين يعنيهم هم سكان
السويد الذين يعيشون في مستوى اقتصادي يشبه الأحلام، ولا يكاد يوجد في
حياتهم خوف من فقر أو شيخوخة أو بطالة أو أي كارثة من كوارث الحياة، فإن
الدولة تضمن لكل فرد يصيبه شيء من ذلك إعانات دورية ضخمة، بحيث لا يجد
مواطن مجالاً للشكوى من العوز أو الحاجة الاقتصادية بحال من الأحوال.
ووصل
نظام الحكم الاشتراكي في السويد إلى ما يقارب محو الفروق تماماً بين
الطبقات، بفرض الضرائب التصاعدية، وإيجاد مختلف أنواع التأمينات الصحية
والاجتماعية، التي لا تجدها دول أخرى.
ومع
هذه الضمانات التي لم تدع ثغرة إلا سدتها - فقد ذكر الصحفي أن الناس يحيون
حياة قلقة مضطربة، كلها ضيق وتوتر، وشكوى وسخط، وتبرم ويأس. ونتيجة هذا أن
يهرب الناس من هذه الحياة الشقية النكدة. عن طريق «الانتحار» الذي يلجأ
إليه الألوف من الناس، تخلصاً مما يعانونه من عذاب نفسي أليم.
وانتهى كاتب التحقيق إلى أن السر وراء هذا الشقاء يرجع إلى أمر واحد هو فقدان «الإيمان» أي إيمان؟
وأمريكا
أغنى بلد في العالم، لم يحقق الغنى لأبنائها السعادة على الرغم من ناطحات
السحاب، ومراكب الفضاء، وتدفق الذهب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.. ورأينا من
مفكريهم من يقول: "إن الحياة في نيويورك غطاء جميل لحالة من التعاسة
والشقاء!".
وقد
لاحظ هذه التعاسة وهذا الشقاء كل من له عين تبصر من أهل الشرق والغرب. فمن
أهل الشرق الشهيد العظيم "سيد قطب" الذي سجل ذلك في كتابه -الذي لم ينشر
بعد- "أمريكا التي رأيت". ومن أهل الغرب الأديبة الفرنسية فرانسواز ساجان
التي زارت نيويورك مرتين ثم كتبت بعد ذلك كتابا، جاء فيه "إن نيويورك
ثقيلة الوطأة على الإنسان" مدينة ينبض قلبها بسرعة أكبر من سرعة سكانها،
والواقع أن الأزمة التي يعانيها سكان نيويورك أزمة عاطفية. إن الدم الفوار
يجري في عضلات أولئك الأمريكيين المتعبين المنهوكي القوى العجلين. إنهم
يريدون أن يقتصدوا في الوقت دون أن يعرفوا كيف ينفقون ذلك الوقت..".
وكذلك الأستاذ كولن ولسون الذي وصف عمران نيويورك وازدهارها المادي، بأنه "غطاء جميل لحالة من التعاسة والشقاء".
فكثرة
المال ليست هي السعادة، ولا العنصر الأول في تحقيقها، بل ربما كانت كثرة
المال أحياناً وبالاً على صاحبها في الدنيا قبل الآخرة؛ لذا قال الله في
شأن قوم من المنافقين (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله
ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) (التوبة: 55) والعذاب هنا هو المشقة والنصب
والألم والهم والسقم، فهو عذاب دنيوي حاضر، على نحو ما ورد في الحديث
"السفر قطعة من العذاب" وهذا ما نشاهده بأعيننا في كل من جعل المال
والدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، ومنتهى أمله، فهو دائماً معذب النفس، متعب
القلب، مثقل الروح، لا يغنيه قليل، ولا يشبعه كثير.
وفي الحديث الذي
رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، تصوير لهذه النفسية المعذبة قال:
"من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا
وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله،
ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" (رواه الترمذي من حديث أنس، وروى ابن
ماجة وغيره قريباً منه من حديث زيد بن ثابت).
ومن
أبلغ العذاب في الدنيا -كما قال ابن القيم- (في كتابه "إغاثة اللهفان")
تشتيت الشمل وتفريق القلب، وكون الفقر نصب عينيه لا يفارقه، ولولا سكرة
عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب.. على أن أكثرهم لا يزال يشكو
ويصرخ منه. ومن أنواع العذاب: عذاب القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا
ومحاربة أهلها إياه، ومقاساة معاداتهم، كما قال بعض السلف: "من أحب الدنيا
فليوطن نفسه على تحمل المصائب"، ومحب الدنيا لا ينفك عن ثلاث: هم لازم،
وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئاً إلا طمحت
نفسه إلى ما فوقه كما في الحديث: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى
لهما ثالث". وقد مَثَّل عيسى ابن مريم -عليه السلام- محب الدنيا بشارب
الخمر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً.
هل السعادة في الأولاد؟
حقيقة
إن الأولاد زهرة الحياة، وزينة الدنيا، ولكن كم من أولاد جروا على آبائهم
الويل وجزوهم بالعقوق والكفران بدل البر والإحسان، بل كم من آباء ذاقوا
حتفهم على يد أولادهم طمعاً في ثرواتهم، أو لوقوفهم في سبيل شهواتهم.
لقد وجدنا من الآباء من يقول لولده آسفاً آسياً:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً
تعل بما أسدي إليك وتنهـل
إذا ليلة نابتك بالشجو لم أبت
لبلواك إلا ساهراً أتملمــل
فلما بلغت السن والغاية التي
إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
كأنك أنت المنعم المتفضــل
وكم
رأينا في الحياة صورا غريبة، وسمعنا أحاديث أغرب، عن عقوق الأبناء وتعاسة
الآباء، وهذا ما جعل الآباء ما برحوا على مر العصور، يشدون شعرهم حنقاً من
جحود أبنائهم، حتى أن الملك "لير" صرخ -على لسان شكسبير- قائلاً: "ليس أشد
إيلاماً من ناب حية رقطاء، غير ابن جحود".
وما جعل شاعراً في الشوق يصرخ ويقول:
أرى ولد الفتى ضرراً عليه
لقد سعد الذي أمسى عقيماً
فإمـــا أن يربيه عدوًّا
وإمـا أن يخلفه يتيمـــاً
وإمـــا أن يوافيه حمام
فيترك حزنه أبداً مقيمـــاً
ثم ما حيلة الذين حرموا من الأولاد؟ أحكم عليهم بالشقاء المؤبد والتعاسة الدائمة.
هل السعادة في العلم التجريبي؟
ترى هل يستطيع العلم المادي التجريبي، الذي قرب للإنسان البعيد، وذلل له الصعب أن يحقق له السعادة؟
والحقيقة
كما يقول الدكتور محمد حسين هيكل (في كتابه "الإيمان والمعرفة والفلسفة"):
إن العلم قد كشف لنا عن كثير مما في الحياة، وأتاح لنا الاستمتاع بنعيمها
إلى حد لم يكن يخطر بخيال أحد من قبل.
والحقيقة
كذلك.. إن الظمأ للمعرفة بعض طبائع الإنسان، فهو ما يكاد يقف على شيء
ويكتنه بواطنه حتى تدفعه الطلعة لكي يقلب في هذه البواطن أو يبحث عن جديد
لما يخضع لعلمه. لكن الحقيقة كذلك أن المعرفة لا تلقى سبباً للسعادة. بل
إنها كثيراً ما تكون داعية قلق النفس، واضطراب الخاطر. والسعادة هذا الحلم
الجميل الطائر أمام أعيننا بأجنحة من نور، هذا الأثير المحس نتنسم في الجو
ذراته، ونريد أن نستنشقها ملء صدورنا فلا نجد منها أبداً ما يكفينا.
السعادة هي ما يجري بنو الإنسان وراءه من عهد آدم إلى اليوم، يجرون وما
يكاد أحدهم يحسب نفسه أدركها حتى يجذبه من خلفه شيطان الشقاء فيصده عنها،
هذه السعادة ليست في العلم؛ لأن العلم شهوة، وليس من وراء شهوة سعادة،
وكثيراً ما أكب علماء على العلم فأفنوا فيه حياتهم، حتى إذا كانوا عند
خاتمة المطاف منها لدغتهم الحسرة أن زادوا أنفسهم بعلمهم همًّا، فأوصوا أن
ينشأ أبناؤهم في الإيمان وأن يرسلوا في الحياة على سجيتهم، وألا يطلبوا
إلى العلم حل طلاسم الغيب.
فعِلمُنا
وإن اتسع المدى ضيِّق إذا قيس إلى مدى الوجود الذي لا نهاية له، بذلك أوصى
نيتشه وغير نيتشه من أكابر العلماء الذين أفنوا صدر شبابهم بأن العلم هاتك
حجب الغيب لا محالة، حتى إذا رأوا حجب الغيب لا تنتهي ضعفوا، وخيل إليهم
أنهم كانوا يسعون وراء سراب لا حقيقة له، وإن كانت غاية هذا السراب كل
الحقيقة".
والفيلسوف
البريطاني المعاصر "براتراند راسل" -رغم نظرته المادية- يقرر أن الإنسان
في صراعه مع الطبيعة قد انتصر بواسطة العلم. أما في صراعه مع نفسه فلم
يحرز نصراً، ولم يُجدِه سلاح العلم، ويعترف بأن الدين لم يزل هو صاحب هذا
الميدان.
ويقول
الدكتور "هنري لنك" طبيب النفس الأمريكي الشهير معارضاً للذين ينكرون
الإيمان بالغيب باسم العلم واحترام الفكر، مبيناً أن العلم وحده لا يستطيع
أن يحقق للإنسان أسباب السعادة الحقة:
"والواقع أنه يوجد
الآن في كل ميدان من ميادين العلم من الظواهر ما يؤجج شعلة ذلك الضلال،
وأعني به تعظيم شأن الفكر، ومع ذلك كان علماء النفس هم الذين توصلوا إلى
أن الاعتماد المطلق على التفكير فحسب كفيل بهدم سعادة الإنسان، وإن لم
يقوض دعائم نجاحه. ثم إن إماطة اللثام عن هذا الاكتشاف لم تتم إلا عن طريق
تجارب هؤلاء العلماء مع الناس، واختباراتهم العلمية التي أجروها على
الآلاف. وبقي أن أقول: إن الوصول إلى هذه المكتشفات قد تم بالنسبة
لعلاقتها بطرق التعليم والدين، والشخصية وفلسفة الحياة عموماً.
فلن
نهتدي إلى حلٍّ شافٍ لمشكلات الحياة العويصة، ولن ننهل من مورد السعادة عن
طريق تقدم المعلومات والمعرفة العلمية وحدها. فارتقاء العلم معناه ازدياد
الارتباك واطراد التخبط، وما لم يتم توحيد هذه العلوم كلها تحت راية حقائق
الحياة اليومية الواضحة وإخضاعها، فلن تؤدي هذه العلوم إلى تحرير العقول
التي ابتدعتها وابتكرتها، بل ستقود حتماً إلى انهيار هذه العقول وتعفنها.
كما أن هذا التوحيد لا بد أن يأتي عن طريق آخر غير طريق العلم، وأعني به
طريق الإيمان (العودة إلى الإيمان ص: 81، 82).