إلى الذين يبحثون عن القدوة الحقة..
إلى الذين يبحثون عن البطولة النادرة..
إلى أولئك المتعطشين لقبس يهتدون به في ظلمات النفس والعقل والحس..
إلى الذين ينقبون عن العظمة في أرقى وأسمى معانيها..
إلى أولئك المتشككون في قيمة وعظمة الرسول.. والذين ينكرون فضله على البشرية، والذين يكذبون فيقولون إن الدين الإسلامي انتشر بحد السيف..
إلى أولئك وهؤلاء وغيرهم من أهل الفكر والعقل... كتب العقاد هذه التحفة النادرة عبقرية "محمد".. لا ليذكر سيرته صلى الله عليه وسلم ولكن كما قال هو:"لأن إيتاء العظمة حقها لازم في كل آونة وبين كل قبيل، خاصة وأن الناس في عصرنا هذا قد اجترأوا على العظمة ... بقدر حاجتهم إلى هدايتها".
الزمان والمكان.. ونور محمد
الزمان: قرب أواخر القرن السادس الميلادي، تحديدا 571 م.
الأحداث: حرب مستعرة بين الإمبراطورية الرومانية والفارسية من أجل المستعمرات في الشرق الأدنى وأوربا، تعقبها سلسلة من معاهدات الصلح "الفاشلة"!!!
المكان: مكة.... قلب الجزيرة العربية.... حيث يزحف "أبرهة" الحبشي بجيش جرار قوامه 60 ألف جندي يتقدمه الفيلة ليهدم الكعبة ويستبدل بها كعبة غيرها!!!
تدابير إلهية: أرسل الحق تبارك وتعالى طيرا أبابيل تحمل "حجارة من سجيل"، ألقتها على أعداء الله وقتلتهم شر قتلة وسمي هذا العام بـ"عام الفيل".
رحمة العالمين: في هذه اللحظة بعينها، ولد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، طفلا يتيما تتلقاه ذراع أمّ حنون، ثم لا تلبث أن تودعه الوداع الأخير، وهو في السادسة من عمره.
هكذا يبدأ الكاتب العظيم الراحل "عباس العقاد" كتابه القيم عبقرية "محمد"، وبنفس التفصيل والإبداع يقف بنا على أعتاب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لنتطلع إلى لمحة من نور النبوة، وتلك العبقريات النادرة في شخصة الكريم، التي تملأ الزمان والمكان إلى يوم القيامة.. وإليكم بعض ما ذكره من لمحات عن عبقريته..
محمد الرئيس.. والصديق
هنا يلفت "العقاد" الأنظار إلى أن رسولنا الكريم كرئيس كان صديقا لمرؤوسيه، فقد جعل الرئاسة تأخذ معنى الصداقة، وهو الذي سبق القوم كلهم في تغليب الرحمة على العدل، ملتمسا ما أفاض به ربه عليه من قرآن وأحاديث قدسية ألهمت هذه النفس البشرية العظيمة الحب والرحمة.. فهو القائل صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه، إن رحمتي تغلب غضبي"، وقال :"إن الله تعالى لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلما ميسرا". وروي عنه أنه "ما خير بين حكمين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه خرق للدين".
وكان يوصي بالضعفاء ويقول لصحبه :"إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"، ويذم الترفع على الخدم والفقراء "فما استكبر من أكل مع خادمه، وركب الحمار بالأسواق واعتقل الشاة حتى حلبها"، ولكنه مع الرحمة بالصغير لم ينس حق الكبير: "من لم يرحم صغارنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا".. ، إذ ليس الإنصاف حراما على الكبراء لمن صغر دون من كبر، فلكل حق ولكل إنصاف...
وكان يشاور أصحابه في كل صغيرة وكبيرة مشورة الصادق الصدوق للأصدقاء الصديقين الأوفياء.. وعلى هذا أعطى نموذجا لعبقرية الرئيس الذي جمع بين الحق والعدل، والرحمة واللطف، بحيث لا يبغي أحدهما على الآخر..
ويأخذنا "العقاد" لجانب آخر من جوانب عبقريته في قيادة الجيوش ملتمسا جانبا هاما لابد أن يتوفر في القائد العظيم ألا وهو الشجاعة..
عن شجاعة النبي..
شكك بعض المستشرقين في شجاعة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم)؛ فزعموا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) اكتفى في مشاركته للمسلمين في الغزوات المختلفة بتجهيز السهام فقط، لأنه عمل أقرب إلى طبيعته (صلى الله عليه وسلم) السمحة وخلقه، عن القتال فى ساحات المعارك!!!!!!
فهل نسي هؤلاء قول أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب":
"كنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله (صلى الله عليه وسلم).. فما يكون أحد أقرب منه إلى العدو"؟!!!
أم تناسوا شجاعته الفريدة عندما فر معظم أصحابه يوم حنين، فأبى إلا أن يشق طريقه وسط ساحة المعركة بمفرده، قائلا:
"أنا النبي لا كذب.... أنا ابن عبد المطلب"؟!!!
ويقول "عمران بن حصين" في شجاعته (صلى الله عليه وسلم):
"ما لقي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كتيبة إلا كان أول من يضرب".
ومع هذه الشجاعة منقطعة النظير، نراه (صلى الله عليه وسلم) يقف في صلاته خاشعا عابدا لرب العالمين، يتلو سورة طويلة من القرآن الكريم، فيسمع بكاء طفل رضيع كانت أمه تصلي خلفه (صلى الله عليه وسلم)، فيضحي بـ"قرة عينه" -الصلاة- وينهي صلاته رحمة بالرضيع الذي يتضرع إلى أمه!!!
أي رحمة هذه جمعتها في قلب رسولك يا رب!!!
وهو (صلى الله عليه وسلم) الذي يقف فوق المنبر ليقول لأصحابه:
"من كنت جلدت له ظهرا... فهذا ظهري فليقتد منه... ومن كنت أخذت من ماله شيئا... فهذا مالي فليأخذ منه"!!!!
أي شجاعة تلك التي بين جوانبك يا رسول الله، ومن ذا الذي يرتفع صوته بأنك آذيته، وقد هديت البشرية إلى الخير والحب والحق.. هديتهم إلى الله، فأخرجتهم من عبادة الأصنام وعبادة العباد إلى عبادة الواحد القهار...
العبقرية السياسية..
ينتقل بنا "العقاد" إلى نقطة أخرى تتجلى فيها عبقرية الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهي...
الحنكة والقدرة الدبلوماسية.
فنجده (صلى الله عليه وسلم) يعقد صلحا مع "قريش" يسمى "صلح الحديبية"، بعدما سار(صلى الله عليه وسلم) بـ 1500 من المهاجرين والأنصار لا يحملون سيوفا لقضاء مناسك العمرة وذلك في شهر ذي القعدة الذي يحرم فيه القتال، ولكن "قريش" منعته وأصحابه من دخول "مكة" على أن يدخلها (صلى الله عليه وسلم) معتمرا العام المقبل و....
ووافق النبي (صلى الله عليه وسلم) على شروط الصلح ومنها: (أن يرد المسلمون من يأتيهم من "قريش" مسلما دون إذن وليّه، في الوقت الذي لا ترد "قريش" من يعود إليها من المسلمين، ومن أراد من العرب مخالفة "محمد" (صلى الله عليه وسلم) فلا لوم عليه، ومن أراد مخالفة "قريش" فلا لوم عليه كذلك)!!!
من هذه الشروط يقدم لنا "العقاد" "محمد بن عبد الله" (صلى الله عليه وسلم) السياسي المحنك الذي استطاع أن يخدع المشركين بفطنته الشديدة.
كيف؟!!!
من الوهلة الأولى، قد يسارع البعض متسائلا: لماذا لم يشترط النبي (صلى الله عليه وسلم) على "قريش" أن ترد إليه من يقصدها من أصحابه، مثلما اشترطت "قريش" عليه (صلى الله عليه وسلم) أن يرد من يأتيه منها؟!!!
السبب واضح جدا؛ فالمسلم الذي يترك النبي (صلى الله عليه وسلم) باختياره ليلحق بـ "قريش" لا يستحق أن يكون مسلما من الأساس..
أما عن هؤلاء الذين يرغبون في الدخول في دين الإسلام من "قريش" وعادوا مكرهين إليها، فيقول "العقاد" إن الصلة بينهم وبين الإسلام لا تنقطع بالقرب أو البعد؛ فإن كانوا ضعاف الدين "فلا خير فيهم"، أما أقوياء الإيمان فسيبقون على دينهم ولا خسارة على المسلمين و....
ووقع المشركون في الفخ الذي أعده لهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بسياسته الحكيمة.
وهكذا ظل العقاد ينتقل بنا من روضة إلى روضة ، لنتنسم عبيرا من شذى عبقريته الفريدة صلى الله عليه وسلم.. ليخرج لنا عملا طيبا أفاد به المسلمين وغيرهم ممن يبحثون بعقل رجيح لا هوى فيه ولا علة من ورائه..
صلوات ربي وتسليماته عليك يا سيدي يا رسول الله